Tuesday 29 November 2016

The Issue of Reconciliation between Revelation and Reason

قضية التوفيق بين الدين والفلسفة




التمهيد

هذه هي أهم القضية من القضايا التي شعلت الفكر الإسلامي في عصوره السابقة[1]، وحاولوا أن يوفقوا بينهما فلاسفة المسلمين منذ أوائل ظهورهم، ومن أبرزهم ابن رشد وغيرهم من العلماء حتى بعده كذلك. على سبيل المثال الكندي، والفارابي، وابن سينا، وأيضا شيخ الإسلام ابن تيمية.

كانت الفلسفة في الدولة الإسلامية أثرا من آثار حركة الترجمة من اللغة الأجنبية إلى اللغة العربية في عهد خليفة مأمون. وقد أعجب فلاسفة المسلمين بالفلسفة اليونانية وموضوعاتها وعناصرها شديد التعجب، لما تحتوي فيها من حكمة عالية، وكمال عقلي، جعلهم حريصين على تعرف وتنشر المسلمين بها.

قال الدكتور عبد الحميد مدكور في كتابه الرائع [في الفلسفة الإسلامية]، أن الكندي فيلسوف العرب قد أوضح عن إعجاب المسلمين بفلسفة اليونانية، في سياق تعريفه بكمية كتب أرسطو، حيث يتبين أنه إنما فعل ذلك "لما في تبيين ذلك من الزيادة في تعشيق الفلسفة لذوى الأنفس النيرة... ولما في كشف ذلك من وضوح السبيل إلى نهاية الشرف العقلي عند مثل هذه الأنفس."[2]

ويسلك الفارابي هذا المسلك في الإعجاب بالفلسفة، لا سيما فلسفة أفلاطون وأرسطو، اللذين يتحدث عنهما حديث إجلال وإكبار. يقول عنهما "ولولا ما أنقذ الله أهل العقول والأذهان بهذين الحكيمين ومن سلك سبيلهما، لكان الناس في حيرة ولبس."[3]

وأضاف الدكتور مدكور "أن لم يكن للفلاسفة هذا الجانب المتعلق بالفلسفة فقط، بل إنهم كانوا ذوي جانب آخر معه، وهو أنهم ينتسبون إلى الإسلام، الذي هو الدين السائد والغالب في المجتمع الذي يعيشون فيه، وقد كانت هذه الصفة فيهم مانعة لهم من أن يصوغوا مذاهبهم وأفكارهم دون مراعاة لهذا الدين الذي يدينون به، ولقد كان هؤلاء الفلاسفة أن يحددوا لهم موقعا، ومكانا بين هذا الدين إلى آمنوا به، والفلسفة التي أعجبوا بها، فالموقع الذي كان منتظرا منهم فهو الذي يراعى الجانبين معا، ويبذل الجهد للتقريب والتوفيق بينهما."[4]


العلاقة بين الدين والفلسفة من الإتفاق والإختلاف

قد تظهر وتجلى في كثير من المراحل الفلسفة مثل مرحلة اليونانية القديمة، ومرحلة العصور الوسطى (تمثل في كل من الفلسفات الإسلامية والمسيحية واليهودية)، ومرحلة العصور الحديثة, أن الدين والفلسفة بينهما ارتباط قوي ووثيق. لكن على الرغم من عمق الإرتباط بينهما إلا أنهما ليسا شيئا واحدا، بل هما شيئان مختلفان بينهما بعض أوجه الإتفاق وكثير من أوجه الإختلاف.

أما أوجه الإتفاق فتظهر في نقطتين:

النقطة الأولى; الإتفاق في الموضوع الذي يعالجه كل منهما، وهما في هذه النقطة يلتقيان في كثير من المسائل مثل قضية الألوهية، وعلاقة الإله بالعالم، وأصل الإنسان ومصيره، وحرية فعل الإنسان إما مسير أم مخير، وخلود النفس أو فنائها، وفكرة الثواب والعقاب.

النقطة الثانية; الإتفاق في الهدف أو الغرض الذي يتناولاه كل منهما، فكلاهما يهدف إلى تحقيق السعادة الإنسانية في العاجل والآجل عن طريق العلم الحق، والعمل الحق. يقول ابن رشد في كتابه [فصل المقال]، "وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق، والعمل الحق. والعلم الحق هو معرفة الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات على ما هو عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي، والعمل الحق هو إثمار الأفعال التى تفيد السعادة، وتجنب الأفعال التى تفيد الشقاء، والمعرفة بهذه الأفعال هو الذي يسمى العلم العملي."[5]

أما أوجه الإختلاف بين الدين والفلسفة، فهي من حيث المصدر والمنبع وكذلك بينهما إختلاف في المنهج والغاية التي يتناول إليها كل منهما.

أما من حيث المصدر والمنبع، فإن الدين مصدره الوحى الإلهي المعصوم من الخطأ، فهو من صنعة إلهية لا تأتي عن اكتساب وسعي بشري، بينهما تقوم الفلسفة على الجهد البشري والخبرة الإنسانية المحدودة بحدود واضعيها،[6]فالعقل الإنساني دائما معرض للخطأ والفساد. وما هو جدير بالذكر هنا أن هذا الإختلاف بين الدين والفلسفة في المصدر لا يؤدي إلى تنازعهما دواما وأبدا، ذلك لأن الوحى من عند الله والعقل أيضا قبس من نور الله على حد تعبير حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي.

أما من حيث من المنهج، فإن الفلسفة تعتمد على المنهج العقلي البحت، أما الدين فإنه يجمع ين مخاطبة العقول والقلوب والوجدان، ومن هنا فهما يختلفان من حيث المنهج.

أما من حيث الغاية، فهما يختلفان فيها اختلافا كبيرا، فغاية الدين هي الفوز برضا الله في الدنيا والآخرة، أما غاية الفلسفة غاية دنيوية فقط، تهدف إلى معرفة الحق والخير بقطع النظر إلى السعادة والنجاة الأخروية.




فالخلاصة في التفريق بين الدين والفلسفة كما قال الأساتذة من قسم العقيدة والفلسفة كلية اصول الدين بجامعة الأزهر;

§       "الفلسفة معرفة عقلية جامدة تقبع في الذهن، وليست لها بشاشة تخالط القلوب وتماذج النفوس، عند من جمدوا على استخدام العقل من الفلاسفة، أما الدين فهو حقيقة إيمانية حية تتجاوب أصداؤها في أعماق الضمير، فتنعكس على الإنسان بالسعادة القلبية.
§       الفلسفة تمارس نشاطها في جانب واحد من جوانب النفوس وهو جانب العقلي، والدين يستحوذ على النفس جميعا، بمعنى أنه يخاطب الكينونة البشرية من جميع جوانبها، ويتعامل مع بديهة الإنسان وعقله وعاطفته ووجدانه.
§       مطلب الفلسفة فكرة جافة ومعرفة جامدة، ومطلب الدين روح وثاب وقوة متحركة.
§       الدين غايته عملية حتى في قسمه النظري، والفلسفة غايتها نظرية حتى في قسمها العملي. وبعبارة أخرى: وجهة الدين عملية أصالة، ووجهة الفلسفة بالأصالة نظرية، ومن ثم يبدو الدين في حياة الكثيرين أبلغ أثرا وأكثر إيجابية.
§       الفلسفة تميل إلى العزلة والإستعلاء، والدين وينزع إلى التدفق والإتصال.
§       الدين أساسه الوحي المعصوم، والفلسفة أساسها العقل الإنساني القاصر الذي تحتمل أفكاره الصواب والخطأ، ومن ثم كان كالم الفلسفة في أمور الإلهيات قولا عقليا ظنيا، بينما كلام الدين في الإلهيات تصريحا إيمانية قاطعا.
§       الدين حقيقة ثابتة لا تقبل التطور أو التغيير، لأنه وحي الله الكامل، فلا يمكن أن تضاف إليه عقيدة أو فكرة جديدة، ولا يمكن أن يحذف منه شيء، أما الفلسفة فهي فكرة عقلية قابلة للتطور، ويمكن أن يضاف إليها وأن يحذف منها، كما حدث في مختلف الفلسفات.
§       الموقف الفلسفي يستخدم العقل بلا حدود، ودون سابق إلتزام بمبدأ أو فكرة، تحصيلا للقناعة العقلية أولا، أما الموقف الديني فيستخدم العقل في حدود المعطيات الدينية فحسب، وبالنسبة للإسلام يجب أن يقال بإنصاف: بأن هذه المعطيات الدينية الموجودة في الصدر الأول للإسلام، وهو القرآن الكريم-تشبع تطلع العقل الرشيد الذي لا يريد أن يبدد طاقته فيما لا مطمع في إدراكه، ولا أمل في محاولته إستكشافة.
عالم الدين أو رجل اللاهوت يبدأ بحثه من العقائد المسلمة في دينه، ويحاول الإستدلال عليها بالأدلة العقلية والبراهين المنطقية، بعد إستيفاء اليقين بها عن طريق الدين. أما الفيلسوف فإنه يبدأ بحثه غير ملتزم أو خاضع لعقيدة معينة-أو هكذا ينبغي أن يكون شأنه-ثم يأخذ بما يؤدي إليه الدليل أو يقضي إليه البرهان كائنا ما يكون. ومن هنا نجد أن عالم الدين لا يعد مسألة الوجود الإلهي مشكلة أو معضلة، لأن ظهور الدين نفسه برهان ياقعي على وجود الإله سبحانه، أما الفيلسوف فيعتبر وجود الإله مشكلة عقلية، تتطلب مجهودا فكريا متواصلا لإثبات هذا الوجود أو إنكاره."[7]



[1] حامد طاهر: الفلسفة الإسلامية مدخل وقضايا (ص۲۷۹)، طبعة دار الهاني، (۲۰۱٦م)
[2] عبد الحميد مدكور: في الفلسفة الإسلامية مقدمات وقضايا (ص۱۷٥)، طبعة دار الهاني، (۲۰۱۲م)
[3] مرجع سابق، (ص۱۷٦)
[4] في الفلسفة الإسلامية مقدمات وقضايا، مرجع سابق، (ص۱۷۷)
[5]أبو الوليد ابن رشد، فصل المقال فيما فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال، (ص۷۸)، طبعة دار السلام، (۲۰۱۲م)
[6] حسن الشافعي، المدخل إلى الفلسفه العامة والفلسفة الإسلامية، (ص۳۳)، طبعة دار البصائر، (۲۰۱۲م)
[7] دراسات في الفلسفة العامة وقضاياها الرئيسية، قسم العقيدة والفلسفة كلية اصول الدين، (ص۱٦۱-۱٥۹)، طبعة مكتبة الأزهر، (۲۰۱۳م)

Monday 21 November 2016

ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين

ترجمة أبو الحسن علي الندوي

اسمه الكامل هو علي أبو الحسن بن عبد الحي بن فخر الدين الحسني وينتهي عرقه الى عبد الله الأشتر بن محمد ذي النفس الزكية بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي ابن أبي طالب. هاجر جده وهو الأمير قطب الدين محمد المدني (677ه) إلى الهند في أوائل القرن السابع الهجري.

كان أبوه عالم من علامة الهند ومؤرخها وصاحب الكتاب المشهور  نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر في تراجم علماء الهند وأعيانها في ثماني مجلدات عن أعلام المسلمين في الهند. وطبع هذا الكتاب في الأخير باسم الاعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام حتى لقب ب"ابن خلكان الهند" لعلمه وفطنته. وكانت والدته من السيدات الفاضلات والمؤلفات, تحفظ القرآن وتقرأ الشعر¸وقد نظمت مجموعة من الأبيات في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولد بقرية تكية بمديرية رائ بريلي في الولاية الشمالية أتر برديش بالهند, في 6 من المحرم 1333ه/1914م. تحت رعاية أمه, بدأ تعلمه للقرأن وحفظه, وأيضا تعلم اللغة الأردية والعربية والإنجليزية. مات والده وهو لم يزل دون العاشرة, فأشرف أمه بتربيته وأخوه الأكبر الدكتور أبو عي الحسني.

التحق بجامعة لكهنؤ، وهي جامعة تدرس العلوم المدنية باللغة الإنجليزية، وفيها قسم لآداب اللغة العربية. قام أبو الحسن بالإختيار لهذ القسم عن شوق، ثم التحق بدار العلوم لندوة العلماء عام 1929م، ليلاقي فيه كبار علماء الهند، وليحضر دروس الشريعة عليهم، ولكنه لم يرتو بعد؛ فالتحق بديوبند مدة شهور. ثم سافر إلى لاهور، وقرأ التفسير القرآني على كبار علمائها، وتحققت أمنيته وآماله بلقاء شاعر ومفكر الإسلام المشهور محمد إقبال، فجالسه وأفاد منه، وعين –بعد ذلك- مدرسًا بدار العلوم لندوة العلماء في عام 1934م.


من أهم مؤلفاته
بلغ مجموع مؤلفات الندوي وترجماته نحو 700 عنوانًا، منها 177 عنوانًا بالعربية، ترجم عدد منها إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والبنغالية والإندونيسية وغيرها. ومنها:

1.    سيرة سيد أحمد بن عرفان الشهيد
2.    مختارات في أدب العرب
3.    قصص النبيين للأطفال (5 أجزاء)
4.    القراءة الراشدة للأطفال (3 أجزاء)
5.    ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين
6.    إلى مُمثِّلي البلاد الإسلامية
7.    بين الدين والمدنِيَّةِ
8.    رجال الفكر والدعوة في الإسلام (4 أجزاء)
9.    النبوة والأنبياء في ضوء القرآن
10.   نحو التربية الإسلامية الحرة في الحكومات والبلاد الإسلامية
11.   القادياني والقاديانية
12.   الصِّراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية
13.   الأركان الأربعة
14.   العقيدة والعبادة والسلوك
15.   صورتان متضادتان لنتائج جهود الرسول الأعظم والمسلمين الأوائل عند أهل السنة والشيعة
16.   المرتضى (في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب)
17.   العرب والإسلام
18.   روائع إقبال
19.   الصراع بين الإيمان والماديَّة
20.   التفسير السياسي للإسلام
21.   مذكّرات سائح في الشرق العربي
22.   الإسلام والحياة
23.   المسلمون وقضية فلسطين
24.   المسلمون في الهند
25.   إلى الإسلام من جديد

ثناء العلماء عليه
كتب عنه الشيخ الغزالي في مذكراته، وقال: "إن رسائل الندوي هي التي لفتت النظر إلى موقف ربعي بن عامر رضي الله عنه بين رستم قائد الفرس وكلماته البليغة له.. أبو الحسن الندوي -فيما أعلم- هو أول من نبهنا إلى قيمة هذا الموقف وهذه الكلمات، ثم تناقلها الكاتبون بعد ذلك وانتشرت".
وصفه الشيخ علي الطنطاوي لما زاره سنة (1373هـ/1954م) في لكهنؤ فقال: "وجدته في الأحوال كلّها، مستقيمًا على الحق، عاملاً لله، زاهدًا حقيقيًّا زهد العالم العارف بالدنيا وأهلها".
وقال يوسف القرضاوي: "الندوي.. مثال للعالم المسلم، والداعية المجدد، ومثال جمع بين رقة الربانيين، وتوحيد السلفيين، والتزام السنيين، وثقافة المعاصرين".
وقال الدكتور مصطفى السباعي: "الندوي.. ذخر للإسلام ودعوته. وكتبه ومؤلفاته تتميز بالدقة العلمية وبالغوص العميق في تفهم أسرار الشريعة وبالتحليل الدقيق لمشاكل العالم الإسلامي ووسائل معالجتها".
وقال سيد قطب: "الندوي.. رجل عرفته في شخصيته وفي قلمه، فعرفت فيه قلب المسلم، والعقل المسلم، وعرفت فيه الرجل الذي يعيش بالإسلام وللإسلام على فقه جيد للإسلام.. هذه شهادة لله أؤديها".
وقال عنه الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر عبد الحليم محمود: "أخلص أبو الحسن الندوي وجهه لله تعالى، وسار في حياته سيرة المسلم المخلص لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدعا إلى الإسلام بالقدوة الحسنة، ودعا إلى الإسلام بكتبه النقية، ودعا إلى الإسلام بسياحته التي حاضر فيها، ووجه وأرشد، فجزاه الله خير ما يجزي عالما عن دينه".

دراسة عن الندوي
كتب عن الندوي بالنسبة إالى فكرته وحيابه العظيم الكثيرون؛ ومنهم مصطفى السباعي، وسيد قطب، وعلي الطنطاوي، ومحمد المجذوب, وغيرهم، ومما كُتِبَ عنه أيضًا:
- أبو الحسن الندوي كما عرفته: أ.د. يوسف القرضاوي.
- النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين: د. محمد رجب البيومي (الجزء الثالث)
-  علماء العرب في شبه القارة الهندية: يونس السامرائي.
- ذكريات علي الطنطاوي.
- أبو الحسن الندوي مفكر وداعية: عبد الحليم عويس، مقال منشور بمجلة الفيصل.
- أبو الحسن الندوي شاهد القرن: مجلَّة المجتمع.

وفات الندوي
توفي الندوي رحمه الله في 23 من رمضان 1420هـ/31 ديسمبر 1999م، عن 86 سنة في قرية تكية كلان بمديرية رائ بريلي (يوبي) الهند. توفي في العشر الأواخر من رمضان، وفي يوم الجمعة أفضل أيام، وقبل صلاة الجمعة أفضل الساعات، فوافاه أجله على أفضل حال.



منهج البحث والتأليف في الكتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين

1.    التعريف بالكتاب
هذا الكتاب كان من باكورة مؤلفات لأبي الحسن الندوي, وكان بداية تاريخ التأليف. وقد ألف هذا الكتاب وهو قد جاوز الثلاثين من عمره قريبا, ما بين السنة 1363ه-1464ه (1944م-1945م).
لقد كان يشعر برغبة غامضة ملحة لم يستطع أن يغالبها, كأن سائقا يسوقه إلى الكتابة في هذا الموضوع. وهو يضيف بالنسبة إلى دوافعه ليؤلف لهذا الكتاب, "وكنت أشعر بخطر االموضوع وأهميته, ولكن لم أكن في الحقيقة مخيرا, بل كنت مسيرا, كأن هاجسا يهجس ي ضميري, ويقول لي: لا بد من وضع كتاب في هذا الموضوع."

2.    سبب إختياره للموضوع
كان الناس قد اعتادوا في ذلك العصر, وقبل العصر الذي ألف فيه هذا الكتاب, أن ينظروا إلى المسلمين من خلال التاريخ العالمي, أو ينظروا إلى المسلمين كشعب عادي وكأمة من أمم كثيرة. ولكن تشجع مؤلف هذا الكتاب وتخطى هذه الحدود المرسومة, وخرج من الإطار التقليدي وأراد أن ينظر إلى العالم من خلال المسلمين, وشتان بين النظرتين نظرة ينظر بها إلى المسلمين من خلال العالم ومن خلال الحوادث التي جرت في العالم, ومن خلال التطورات التي حدثت في التاريخ, المسلمون شعب من الشعوب يخضعون لما يجري في العالم في إطار عالمي واسع.

وكأن الله الهم على الندوي لأن يكتب في موضوع ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين, بأن ينسب  إلى المسلمين أنهم هم العامل العالمي المؤثر في مجاري الأمور في العالم كله, ليس في بقعة جغرافية محدودة, أو منطقة سياسية خاصة, وهل للمسلمون حقا في وضع ومستوى يمكن أن يقال: إن العالم يخسر شيئا بانحطاطهم وتخلفهم عن مجال القيادة القيادة العالمية. ومركب النقص الذي أصيب به الجيل الجديد المثقف, كان يعوق كثيرا من الباحثين عن أن يربطوا قضية المسلمين يقضية العالم وبقضية الإنسانية والقيادة العالمية.
ويسوغ لمؤلف أن يؤلف كتابا فيبحث عن مدى خسارة العالم الإنساني والعالم المعاصر بانحطاط المسلمين, وأن الموضوع كان خطيرا جدا, وكان فيه شبه مجازفة ومغامرة علمية, ولكن الله أعان الندوي على ذلك ليختم كتاباته وبحثه المفيد للمسلمين في جميع الأقطار.

3.    هيكل البحث
يحتوي هذا الكتاب على خمسة أبواب ويندرج تحت كل الأبواب كثير الفصول, وهو:
-العصر الجاهلي
-من الجاهلية إلى الإسلام
-العصر الإسلامي
-العصر الأوروبي
-قيادة الإسلام للعالم

تحدث الندوي في الباب الأول (العصر الجاهلي) عن مأساة إنسانية عامة وهي الإنحطاط السياسي والإنخلال الإجتماعي والقلق الإقتصادي الذي يصيب جميع الأمم والدول في العالم قبل ظهور رسالة الإسلام ونبوة رسول الله (ص) مثل الدولة الرومية (مصر وحبشة وغيرهما) والأمم الأوروبية الشمالية والغربية وأمم آسيا الوسطى وإيران والصين والهند وجزيرة العرب. المثال لهذه المشكلة الحضارية التي حدثت بينهم هي زيادة الإتاوات وتضاعف الضرائب, والحروب الدامية, والمحرمات النسبية, وتقديس الأكاسرة, ونظام الطبقات في المجتمع, والشهوة الجنسية الجامحة, ونزول مركز المرأة في المجتمع.

أصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والإنحلال والإختلال وسوء النظام, وعسف الحكام, لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة. وأيضا أصبحت الديانات العظمى مثل المسيحية واليهودية والمجوسية والبوذية والهندية والوثنية فريسة العابثين والمتلاعبين, ولعبة المحرفين والمنافقين والفاسقين حتى فقدت روحها وشكلها.

أما في باب الثاني (من الجاهلية إلى الإسلام), تكلم الندوي عن منهج الرسول في الإصلاح والتغيير للعالم الذي واجهه الرسول في ذلك الوقت. كل أدواء المجتمع الإنساني يتطلب إصلاحه حياة كاملة ويستغرق عمر إنسان بطوله.فأتى محمد رسول الله, ودعا الناس إلى الإيمان بالله وحده, ورفض الأوثان والعبادات والكفر بالطاغوت بكل معاني الكلمة, ويغذي أرواح الصحابة بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان. بهذا الإيمان الواسع العميق, والتعليم النبوي المتقن, والتربية العميقة الدقيقة, وبشخصيته الفذة, وبفضل القرآن المعجز انحلت العقدة الكبرى لأمة العرب وهي الشرك الذي انتشر بينهم في العصر الجاهلي.

ظهر من هذه المدرسة النبوية الشريفة المجتمع الإسلامي الجديد الرشيد مسؤولا عن كل أعماله, ويطيع الخليفة ما أطاع الله فيهم, وهم داخل المجتمع كأسرة واحدة أبوهم آدم, وآدم من تراب, لا فضل لعربي على ىجمي, ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى. وأصبح منهم أيضا النوادر والعجائب من الحب والتفاني والطاعة والإنقياد وإيثار الرسول على أنفسهم وأهلهم.

شرح العلامة الندوي في باب الثالث عن العصر الإسلامي بنقطتين, ففي النقطة الأولى تحدث عن أسرار التي تؤهل المسلمون لقيادة الأمم, ومنها أنهم أصجاب كتاب سماوي وشريعة إلهية, وأنهم يتولون الحكم والقيادة بتربية خلقية وتزكية النفس, وأنهم قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة الله وحده فلم يكونوا خدمة جنس ورسل شعب أو وطن, والأخير أنهم يسيرون في طريق الوسط بين المادية الحيوانية والروحانية الرهبانية.

ورأى أيضا الندوي أن شروط الزعامة الإسلامية تجمع في كلمتين (الجهاد) و (الإجتهاد). أما الجهاد فهو بذل الوسع وغاية الجهد لنيل أكبر مطلوب وأكبر وطر للمسلم طاعة الله وروضوانه, والخضوع لحكمه, والإسلام لأوامره. أما الإجتهاد فالمراد به أن يكون من يرأس المسلمين قادرا على الضاء الصحيح فيالنوازل والحوادث التي تعرض في حياة المسلمين.

أما في النقطة الثاني, تحدث عن التحريفات التي وقعت بين المسلمين وفي الحياة الإسلامية, ورسم عدة أسباب لتخلفهم, ومنها فصل الدين عن السياسة, حتى أصبح الدين مقصوص الجناح مكتوف الأيدى, وأصبحت السياسة مطلقة اليد حرة التصرف. ومنها أيضا ظهور النزعات الجاهلية في رجال الحكومة وسوء تمثيلهم للإسلام. وبالإضافة إلى ذلك, قلة الإحتفال بالعلوم العملية المفيدة واشتغلوا بعلوم ما بعد الطبيعة والفلسفة الإلهية التي تلقوها من اليونان فقط, وما هي عند الندوي, إلا وثنيتهم القومية التي ترجموها في لغتهم الفلسفية. وأيضا من سبب تخلف المسلمين هو نشر الضلالات والبدع لدى المسلمين. طرأت هذه البدع على النظام الديني, وشغلت مكانا واسعا من حياة المسلمين وشغلتهم عن الدين الصحيح وعن الدنيا.

أما في باب الرابع عن العصر الأوروبي, تحدث الندوي عن كثير الأشياء تتعلق بالحضارة الغربية القديمة وفي العصر الوسيط والحديثة. ومن خصائص المشتركة بين الحضارة الرومبة والإغرقية القديمة هي المادية. تعني الإيمان بالمحسوس وقلة التقدير لما لا يقع تحت الحس, وقلة الدين والخشوع, وشدة الإعتداد  بالحياة الدنيا والإهتمام الزائد بمنافعها. وأيضا الوطنة فهي من لوازم الطبيعة الأوروبية وسائدة في أوروبا في القديم لا يكاد يجاوز ممالك بلدية لا تزيد منطقتها على أميال مستقلة استقلالا تاما. والظاهرة التي يمتاز بها الروم من بين أمم الأرض المعاصرة هي روح الإستعمار وتقوق في القوة والتنظيم وصفات الجندية.

وتكلم الندوي أيضا عن النكبة الأكبر التي حدثت للأوروبين في العصر الوسطى, وهي فتنة النصرانية والبابوية ورجال الدين. وكان البابوات يتمتعون في هذه العصور الوسطى بنفوذ واسع وسلطان عظيم لم يكن للملوك والأباطرة. ومن أكبر جناية رجال الدين على أنفسهم وعى الدين الذي كانوا يمثلونه أنهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة معلومات بشرية ومسلمات عصرية عن التاريخ والجغرافية والعلوم الطبيعية التي لم تكن قطعية لدى العلم الإنساني. وكان هذا سببا للكفاح المشئوم بين الدين والعقل الذي انهزم فيه الدين. فسقط رجال الدين سقوطا لم ينهضوا بعده. وبالإضافة إلى جنايتهم اضطهادهم للعلوم ضد الكنيسة وتعاليمها التي اكتشفها العلماء, وأنشأوا محاكم التفتيش التي لتبحث العلماء التي ناقشوا العلم ضد الكنيسة. ففقدت ثقة الأوروبيين بالكنيسة, وانصرف اتجاه الغرب إلى المادية بكل معانيها من عقيدة ووجهة نظر ونفسية وعقلية وأخلاق واجتماع وعلم وأدب وسياسة وحكم, وكان ذلك تدريجيا. والحاصل, تحول العالم بأسره إلى جاهلية مادية, تجردت من كل خلفته النبوة من تعاليم روحية, وفضائل خلقية, ومبادئ إنسانية.

وفي باب الأخير (قيادة الإسلام للعالم), أكد الندوي أشد تأكيدا أن الحل الوحيد لهذه الأزمة الإنسانية الكبيرة هو تحول القيادة العالمية من أوروبا-بالمعنى الواسع الذي يشمل بريطانيا وأمريكا وروسيا ومن كان على شاكلتها من الأمم الآسيوية والشرقية-التي تقودها المادية والجاهلية, إلى العالم الإسلامي الذي يقوده سيدنا محمد (ص) برسالته الخالدة ودينه الحكيم. فعلى الإسلام أن يراقب سير العالم ويحاسب الأمم على أخلاقها وأعمالها ونزعاتها, وأن تقودها إلى الفضيلة والتقوى, وإلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.

رسالة العالم الإسلامي هي الدعوة إلى الله ورسوله والإيمان باليوم الآخر, وجائزته الخروج من الظلمات إلى النور, ومن عبادة الناس إلى عبادة الله وحده, والخروج من ضيق الدنيا إلى سعتها, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فالمهم الأهم لقادة العالم الإسلامي, وجمعياته الدينية وللدول الإسلامية غرس الإيمان في قلوب المسلمين وإشعال العاطفة الدينية, ونشر الدعوة إلى الله ورسوله, والإيمان بالآخرة على منهاج الدعوة الإسلامية الأولى وأيضا الإستعداد التام في العلوم والصناعة والتجارة وفن الحرب.


رأيي بالكتاب
كنت أتعجب جدا وأبدا بهذا الكتاب الرائع. أولا مهما كان المؤلف من العجم نسبا وبلده بعيد أشد البعد بين الهند والبلاد العربية لكنه يكتب بأسلوب اللغة العربية جيدا ومراجعه من الكتب العربية وافرا يكاد أن يكون مثل الجهابذة من مؤلفي العرب. ووافقت بجميع الأطروحة التي كتبها العلامة الندوي, مثل تصوراته عن فكرة المفاصلة بين الإسلام والجاهلية, وأن الجاهلية لا تزيد في العالم إلا ضلالا وخسارا وتبارا. وأيضا أن الإسلام فقط يصلح لقيادة العالم والأمم كله وأن يعود الإنسان جله إلى إنسانيته وفطرته الأصلية التي فقدت حين انتشرت المادية اللادينية في الأرض.

ولكني أخالفه-مع إقراري لعلمه الوفير والوسيع-في النقطة الواحدة فقط, أن الندوي يخصص في الباب الخامس فصلا خاصا عن زعامة العالم العربي, كأنه يقصد بهذا الفصل أن قيادة الإسلام للعالم لا بد أن تكون للعرب أولا, وكأن الإسلام لا يقود العالم إلا على يدي العرب, مع أن الواقع يخالف ذلك. أنا لا أنكر فضل العربي على الإطلاق, وفضلها الأعلى والأقصى أن رسول الله (ص) هو العربي جنسيا وأن القرآن أنزل بلغتهم, لكنا نرى أن الخلافة الإسلامية كانت على يد الدولة العثمانية وهم الأتراك من الأعاجم, وأيضا صلاح الدين الأيوبي فاتح القدس هو من الكرد نسبا. أما في قيادة العلم, في علم الحديث على سبيل المثال, أغلب علمائهم ليسوا من العرب كأمام البخاري ومسلم.